فصل: تفسير الآية رقم (62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأقول بناء على ما تمهد أن قوم نوح لما ذكر تعالى عنهم في سورتى هود والمؤمنين إساءة في جوابهم لنبيهم وإطالة في المرتكب حين قالوا في سورة هود: {ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} فجمعوا في هذه الإطالة توهمهم مساواته عليه السلام، فيما رآه البادى من البشؤية والصورة الإنسانية إلى استرذال أتباعه كما قالوا في الموضع الآخر: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} وإلى التعامى عن فضله عليه السلام عليهم وظنهم كذبه وقد نزهه الله من ذلك كله فإذا تأملت مجموع هذا استطلعت منه مكنون كفرهم ومثل هذا من غير فرق قولهم في آية المؤمنين: {ما هذا إلا بشر مثلكم} إلى قولهم: {إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين} فلإساءتهم فيما ذكر من الوارد عنهم في الموضعين وصفوا بالكفر فقال تعالى: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} فوصفهم بالكفر في السورتين وأما آية الأعراف فقولهم فيها: {إنا لنراك في ضلال مبين} ليس كجوابهم في السورتين الأخريين لا من جهة الطول ولا من جهة المعنى لأن لفظ الضلال ليس بنص في الضلال عن الدين لأنه يقال ضل بمعنى تحيز وجار عن دين أو طريق ويتسع في إطلاق لفظ الضلال على غير ما ذكرنا وقد قال بعض المفسرون هنا في تفسير الضلال: إنه الذهاب عن طريق الصواب والحق وبالجملة فإنهم لم يريدوا هنا الضلال الذي هو الكفر وإن كان قد يقع إذا تقدمته قرينة على أعظم من الكفر وأما هنا فليس كذلك فلما لم يكن في الوارد في سورة الأعراف من الإطالة في العبارة والإبلاغ فيما قصدوه من المعنى مثل ما في السورتين ناسبه الإيجاز وإن لم يوصفوا هنا بالكفر فقال تعالى: {قال الملأ من قومه} ومما يشهد أن قوم هود عليه السلام لما بلغوا في إساءة جوابهم لنبيهم في قولهم: {إنا لنراك في سفاهة} وأرادوا في قلة علم وخفة حلم قاله الغرنوى: وقال غيره: في خفة حلم وسخافة عقل، فلما أساؤوا في مقالهم هذا عبر عنهم بقوله تعالى: {قال الملأ الذين كفروا من قومه} فوصفوا بالكفر مناسبة لقولهم ولما لم يقع في جواب قوم صالح مواجهة نبيهم بمثل هذا بل عدلوا إلى مخاطبة ضعفائهم بقولهم لمن آمن منهم: {أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه} فلما لم يواجهوا نبيهم بما واجه قوم هود عبر عن هؤلاء بقوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه}.
فإن قيل قد وصفوا بما يفهم كفرهم وهو الاستكبار قلت قوبل بهذا وصف مخاطبيهم بالاستضعاف وليس كالإفصاح بالكفر فوضح ما بسطناه أولا وجرى كل من ذلك على ما يناسب والله أعلم بما أراد. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله: {لَيْسَ بِى ضَلاَلةٌ}: نسبوا نوحًا عليه السلام إلى الضلالة، فتولَّى إجابتهم بنفسه فقال: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلاَلَةٌ}، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم نُسِبَ إليه فتولَّى الحق سبحانه الردَّ عنه فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] فشتان بين مَنْ دافع عن نفسه، وبين مَنْ دَافَع عنه ونفى عنه ربُّه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
وقوله: {لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} الضَّلالُ، والضَّلالةُ، العدول عن الحق.
و{مِنْ رَبِّ} صفة لـ {رَسُول}، و{مِنْ} لابتداء الغاية المجازية. اهـ.

.تفسير الآية رقم (62):

قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم استأنف الإخبار عن وظيفته بيانًا لرسالته فقال: {أبلغكم} وكأن أبواب كفرهم كانت كثيرة فجمع باعتبارها أو باعتبار تعدد معجزاته أو تعدد نوبات الوحي في الأزمان المتطاولة والمعاني المختلفة، أو أنه جمع له ما أرسل به من قبله كإدريس جده وهو ثلاثون صحيفة وشيث وهو خمسون صحيفة عليهما السلام فقال: {رسالات ربي} أي المحسن إليّ من الأوامر والنواهي وجميع أنواع التكاليف من أحوال الآخرة وغيرها، لا أزيد فيها أنقص منها كما هو شأن كل رسول مطيع.
ولما كان الضلال من صفات الفعل، واكتفى بالجملة الفعلية الدالة على حدوث في قوله: {وأنصح} وقصر الفعل ودل على تخصيص النصح بهم ومحضه لهم فقال: {لكم} والنصيحة: الإرشاد إلى المصلحة مح خلوص النية من شوائب المكروه، ولما كان الضلال من الجهل قال: {وأعلم من الله} أي من صفات الذي له صفات الكمال وسائر شؤونه {ما لا تعلمون} أي من عظيم أخذه لمن يعصيه وغير ذلك مما ليس لكم قابلية لعلمه بغير سفارتي فخذوه عني تصيروا علماء، ولا تتركوه بنسبتي إلى الضلال تزدادوا ضلالًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {أُبَلِغُكُمْ رسالات رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ}.
فيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ أبو عمرو {أُبَلّغُكُمْ} بالتخفيف، من أبلغ، والباقون بالتشديد.
قال الواحدي: وكلا الوجهين جاء في التنزيل، فالتخفيف قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} [هود: 57] والتشديد {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
المسألة الثانية:
الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة معناه: أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه، وأما النصيحة: فهو أنه يرغبه في الطاعة، ويحذره عن المعصية، ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه، وقوله: {رسالات رَبّى} يدل على أنه تعالى حمله أنواعًا كثيرة من الرسالة.
وهي أقسام التكاليف من الأوامر والنواهي، وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة، ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا، وقوله: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} قال الفراء: لا تكاد العرب تقول: نصحتك، إنما تقول: نصحت لك، ويجوز أيضًا نصحتك.
قال النابغة:
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا ** رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي

وحقيقة النصح الإرسال إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى: أني أبلغ إليكم تكاليف الله، ثم أرشدكم إلى الأصوب الأصلح، وأدعوكم إلى ما دعاني، وأحب إليكم ما أحبه لنفسي.
ثم قال: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وفيه وجوه:
الأول: واعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان.
الثاني: واعلم أنه يعاقبكم في الآخرة عقابًا شديدًا خارجًا عما تتصوره عقولكم.
الثالث: يجوز أن يكون المراد: واعلم من توحيد الله وصفات جلاله ما لا تعلمون ويكون المقصود من ذكر هذا الكلام: حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{أُبلِّغُكُمْ رِسَالاَت رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} أي أمنعكم من الفساد وأدعوكم إلى التوحيد وأحذركم من العذاب.
وقال أهل اللغة: أنصح لكم وأنصحكم لغتان بمعنى واحد، كما يقال: شكرت لك وشكرتك ثم قال: {وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يعني: أعلم أنكم إن لم تتوبوا يأتيكم العذاب وأنتم لا تعلمون ذلك، وذلك أن سائر الأنبياء عليهم السلام خوّفوا أمتهم بعذاب الأمم السابقة، كما قال شعيب لقومه: {ويا قوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالح وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} [هود: 89] وأما قوم نوح فلم يكن بلغهم هلاك أمة قبلهم.
فقال لهم نوح: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} من العذاب الذي ينزل بكم. اهـ.

.قال الثعلبي:

{أُبَلِّغُكُمْ} قرأ أبو عمرو: وأُبلّغكم خفيفة في جميع القرآن لقوله: {لقد أبلغتكم رسالات ربّي}، وليعلموا أن قد أبلغوا رسالات ربهم. ولأن جميع كتب الأنبياء نزلت دفعة واحدة منها القرآن، وقرأ الباقون: أُبلّغكم بالتشديد واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لأنّها أجزل اللغتين، قال الله: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 67].
{وَأَنصَحُ لَكُمْ} يقال بتخفيفه ونصحت له وشكرته وشكرت له {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من عقابه لا يرد عن القوم المجرمين. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقرأ السبعة سوى أبي عمرو {أبَلّغكم} بشد اللام وفتح الباء، بسكون الباء وتخفيف اللام، وقوله صلى الله عليه وسلم {وأعلم من الله ما لا تعلمون} وإن كان لفظًا عامًا في كل ما علمه فالمقصود منه هنا المعلومات المخوفات عليهم لاسيما وهم لم يسمعوا قط بأمة عذبت فاللفظ مضمن الوعيد. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أُبلِّغكم} قرأ أبو عمرو: {أُبْلِغكم} ساكنة الباء خفيفة اللام.
وقرأ الباقون: {أُبَلِّغكم} مفتوحة الباء، مشددة اللام.
قوله تعالى: {وأنصح لكم} يقال: نصحته، ونصحت له، وشكرته وشكرت له.
قوله تعالى: {وأعلم من الله مالا تعلمون} أي: من مغفرته لمن تاب، وعقوبته لمن أصرَّ.
وقال مقاتل: أعلمُ من نزول العذاب مالا تعلمونه؛ وذلك أن قوم نوح لم يسمعوا بقوم عُذِّبوا قبلهم. اهـ.

.قال القرطبي:

{أُبَلِّغُكُمْ} بالتشديد من التبليغ، وبالتخفيف من الإبلاغ.
وقيل: هما بمعنًى واحد لغتان؛ مثلُ كرَّمه وأكرمه.
{وَأَنصَحُ لَكُمْ} النُّصح: إخلاص النية من شَوَائب الفساد في المعاملة، بخلاف الغَشِّ.
يقال: نصحته ونصحت له نَصيحةً ونَصاحة ونُصحا.
وهو باللام أفصح.
قال الله تعالى: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} والاسم النصيحة.
والنّصِيح الناصِحُ، وقوم نُصحاء.
ورجل ناصح الجَيْب أي نقيّ القلب.
قال الأصمعيّ: الناصح الخالص من العسل وغيره.
مثلُ الناصع.
وكل شيء خَلَص فقد نَصَح.
وانتَصَح فلان أقبل على النصيحة.
يقال: انْتَصِحْني إنني لك ناصح.
والناصح الخياط.
والنِّصاح السلك يُخاط به.
والنِّصاحات أيضًا الجلود.
قال الأعشى:
فَتَرى الشُّرْبَ نَشَاوَى كلَّهم ** مثل ما مُدّتْ نِصاحاتُ الرُّبَحْ

الرُّبَحُ لغة في الرُّبَع، وهو الفَصِيل.
والرُّبَح أيضًا طائر.
وسيأتي لهذا زيادة معنًى في براءة إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال الخازن:

{أبلغكم رسالات ربي} يعني بتحذيري إياكم عقوبة على كفركم إن لم تؤمنوا به {وأنصح لكم} يقال نصحته ونصحت له كما يقال شكرته وشكرت له والنصح إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه وقيل النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير وقيل حقيقة النصح تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه والمعنى أنه قال أبلغكم جميع تكاليف الله وشرائعه وأرشدكم إلى الوجه الأصلح والأصوب لكم وأدعوكم إلى ما دعاني إليه وأحب لكم ما أحب لنفسي قال بعضهم والفرق بين إبلاغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة أن يعرفهم جميع أوامر الله تعالى ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها الله تعالى عليهم.
وأما النصيحة فهو أن يرغّبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم عقابه إن عصوه {وأعلم من الله ما لا تعلمون} يعني أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان والغرق في الدنيا ويعذبكم في الآخرة عذابًا عظيمًا وقيل أعلم أن مغفرة الله تعالى لمن تاب وعقوبته لمن أصر على الكفر وقيل: لعل الله أطلعه على سر من أسراره فقال وأعلم من الله ما لا تعلمون. اهـ.